محمد أحمد العبدالله
كان ميلاد البعث ضمن السياق التاريخي لتطور الحركة النضالية القومية في المشرق العربي وخاصة في بلاد الشام، بعد أن تعرضت الحركة العربية القومية لسلسلة من النكسات الخطيرة، بدأت أولاها مع تحطم مشروع الثورة العربية الكبرى حين فشلت بإقامة مملكة عربية مستقلة تضم الجزيرة والشام والعراق، وثانيها الاندفاع الاستعماري الفرنسي والبريطاني لاحتلال الشام والعراق، بعد أن تم تمزيق آسيا العربية إلى دويلات صغيرة تطبيقاً لمعاهدة سايكس – بيكو، ثم أعقب تلك النكسات السعي الأوربي الأمريكي المحموم بمساندة الحركة الصهيونية مادياً ومعنوياً لإقامة كيان يهودي في فلسطين، لتكون بؤرة سرطانية مهمتها تدمير أي مشروع قومي عربي وحدوي في تلك المنطقة، واستمرار العرب في حال التخلف والفقر والتمزق.
ولدت حركة البعث العربي بعد مخاض تاريخي طويل لحركة الجماهير العربية التي تصاعدت منذ منتصف القرن التاسع عشر، كانت الحركة تبحث عن الوعاء التنظيمي لطليعتها الثورية، الذي يقودها نحو أهدافها القومية المشروعة. لهذا نرى أن البيان الأول لحركة البعث الصادر في 24 تموز 1943 الذي ترجم شخصية حركة البعث وسماتها وضرورات ولادتها عبر عن ماهية تلك الطليعة فقال : نمثل الروح العربية ضد الشيوعية المادية. - نمثل التاريخ العربي الحيّ ضد الرجعية الميتة والتقدم المصطنع. - نمثل القومية العربية التامة المعبرة عن حاصل الشخصية. - ضد القومية اللفظية التي لا تتعدى اللسان، ويناقضها مجموع السلوك. - نمثل رسالة العروبة ضد حرفة السياسة. - نمثل الجيل العربي الجديد. )
عبرت حركة البعث في الأيام الأولى لولادتها عن رؤية معرفية لتاريخ الأمة وحاضرها ومستقبلها، وبأنها جاءت لتمثل الروح العربية، التي تجلت في رسالتها الخالدة إلى شعوب العالم التي تشكلت عبر آلاف السنين، و تبنت في مضامينها تطلعات الإنسان نحو المساواة والعدل والإنصاف، ورفض الظلم والاستبداد والاستعباد، وقدمت للإنسانية حضارات مدنية مايزال العالم ينهل من ثمارها إلى يومنا هذا، بدء من الأبجدية إلى الرياضيات والفلسفة والعلوم إلى الديانات الثلاث التي ظهرت على أرضها. إن هذه الحركة التي ارتكزت إيديولوجيتها على الروح والمادة حتى تتكامل الرؤية المستقبلية للإنسان العربي الجديد الذي سيساهم في صناعة حضارة العالم الجديد، التي رأى بأنها يجب أن تقوم على هذا الثنائي، حتى لا يكون إنساناً مادياً متوحشاً يدمر العلاقات الإنسانية كلها من أجل مصالحه المادية فقط. ولا روحياً مطلقاً انعزالياً يرفض الناتج المادي الذي ينمو لخدمة الإنسان ورفاهيته. وترجم البعث المبادئ الأساسية عملياً في ساحات النضال في الوطن العربي، حين قدم على أرضه دماء مناضليه، وتصادم مع القوى الرجعية والتجزئة والصهيونية والاستعمار وأذنابه ومناصريه، فكان البعثيون وقود الحرية في سورية والعراق والأردن ولبنان والجزيرة العربية واليمن وعدن، ومازالوا إلى يومنا هذا يقدمون التضحيات في العديد من الساحات سواء أكان في بلاد الرافدين أو فلسطين أو لبنان. لهذا نرى الجنون الأمريكي والحقد الصهيوني ضد البعث العربي الاشتراكي، فأعلنوا بعد احتلالهم للعراق ما يسمى بقانون اجتثاث البعث ظناً منهم أنهم ينهون هذه الحركة القومية، ثم أعلنوا الحصار ضد سورية. وهكذا تبقى منارة البعث عالية، يحرق ضوئها كل قوى الشر والبغي والعدوان، وتنير الطريق للأجيال العربية لتحقيق أهدافها في الوحدة والحرية والاشتراكية. ومن أجل بناء وطن عربي واحد يأخذ مكانه في صدارة الأمم المتحضرة.